المؤرخ المحقق ... واللغوي المدقق:
قؤولٌ فعولٌ طيِّبُ الخِيم طاهرٌ *** إمامٌ، له من كلِّ حُكمٍ أسدّه
فما قال في دنياه هجْرًا ولا هوًى *** ولا زاغ عن حقٍّ تبيَّن رُشدُهُ
حمى نفسَه الدنيا وعفَّ تكرُّمًا *** ولمّا يُصعّر للدَّنيَّات خَدّه
وَلم تلهه الدُّنْيَا وزخرفها الَّذِي *** يروق لمن لم يؤنس الدَّهْر رشده
هو العلامة الفاضل، الشهم الماجد، المؤرخ المحقق، واللغوي المدقق: الشيخ محمد بن أحمد بن الشيخ سيدي باب، أمه السيدة الفاضلة اسحابه(بابه) بنت المبروك، ولد سنة 1926م عند البئر المسمّى "مايگوم" في ضواحي بو تلميت، ونشأ بها، نهل من معين والده الذي اعتنى بتهذيبه وتعليمه وتربيته وتوجيهه وإرشاده.
كانت المنطقة مركزا علميا هاما في ذلك العصر، وقد ازدانت بعدد كبير من العلماء والمقرئين والأدباء، فشَبَّ في تلك البيئة العلمية، وكان بطبعه ومنذ صِغره ذا نَهَم للمعرفة لا يشبع، وصاحبَ طموح إليها لا يقفُ عندَ حدّ من أَجل الوصول فيها إلى أقصى الغايات وأعلى الدرجات، وأعانه على تحقيق أهدافه العلميّة ما كان له من الجِدَة والشّغَف بالتحصيل، وهكذا أقبَلَ منذ نعومة أظفارِه على ينابيع المعرفة يعُبُّ وينهَلُ، لازم علماء عصره أمثال محمد سالم بن حامدت، ومحمد محمود بن اكرامه وابنه محمد سالم، ومحمد الأمين بن الرباني، حفظ القرآن الكريم، وتضلع من العلوم الشرعية، ثم انتقل بعد ذلك إلى طلب العلوم اللغوية والتاريخية برغبة شديدة، وحافظة عجيبة، وذهن وقاد وحاد، فشدَّ الرحال إلى محظرة آل عدّود حيث أولاه العلّامة محمد عالي ولد عدّود رحمه الله عناية خاصة لما لمس فيه من ذكاء وحرص على التعلّم.
يقول ابنه الدكتور الفاضل إبراهيم بن محمد بن أحمد بن الشيخ سيدي حفظه الله: (فجعل له العلامة محمد عالي بن عبد الودود لوحين اثنين يدرّسه أحدهما مع التلاميذ الذين يدرسون الفقه، أما اللوح الثاني فيدرّسه ما فيه من علوم اللغة العربية منفردًا، وهذا ما يُفسّر ما وصل إليه من نبوغ في اللغة العربية خاصة التي يُعدُّ أحد علمائها البارزين في محيطه الاجتماعي، ومن هنا نشأت العلاقة الخاصة بينه وبين آل عدّود التي حرص كلّ الحرص على ترسيخها لدى أبنائه وأوصاهم بالحفاظ عليها)، انتهى كلامه.
ثم قفل الشيخ محمد راجعا إلى بو تلميت وقد بلغ قمة العلم، وتبوأ مرتبة كبيرة في الإحاطة بعلوم اللغة العربية.
ظهرت كفايته، وحمدت طريقته، وكان مشتغلا بما يعنيه، وتاركا لما لا يعنيه، وله من معرفة الحقائق ومحبة معالي الأمور ونزاهة النفس والعفة والصيانة ما هو متفرد به، ثم له من حسن الأخلاق أوفر حظ وأكرم نصيب.
كان ــ رحمه الله ــ سيدا حليما وقورا، من أعلم الناس بأخبار البلاد وأنسابها ومآثرها، ثقة من أوعية العلم حافظًا للتاريخ، ذاكرا له، من نبلاء الرجال وأفرادهم، غاية في الضبط، كما عرف بلطف السّجية، وحسن التأنّي، وثقوب الذّهن والفهم، ألمعيّ، ذكي، طاهر الصون والعفّة، مشهور الشّهامة والنّجدة، مع الخير والورع وصحة الدين:
ذا المجدُ فيه وفي أبيه وراثةٌ *** إذ هو منه ومن أبيه شعار
ولنباهته منذ حداثته، ونبوغه وحدة ذكائه، وتوفر علائم النجابة عليه، انتدبه عمه الشيخ عبد الله بن الشيخ سيدي باب رحمه الله للتدريس في معهد أبي تلميت للعلوم الإسلامية والثقافية، فكان مدرسا للتاريخ والتراجم والسير من سنة 1957م إلى أن تحول المعهد بعد ذلك إلى ثانوية سنة 1973م.
سار جادا ومجتهدا في تدريسه، يتلقى عنه الطلاب الدروس بكل يسر وسهولة ورغبة، عاملا بأقصى ما فيه من جهد وإخلاص للتقريب والتوضيح.
وقد زان علمه بالعفة والديانة والتواضع مع الصيانة والتبصر:
ولنفسه حريةٌ وتواضعٌ *** ودماثةٌ وديانةٌ وتورعُ
وكان مقصدا لأصحاب الحاجات وطالبي الشفاعات، محببا لدى العامة والخاصة، يسعى للقريب والبعيد:
يولي الْأَقَارِب تَقْرِيبًا إِلَيْهِ وَلَا *** يولي الأباعد إِن زاروه تبعيدا
عين بالسفارة الموريتانية بالمملكة المغربية كمستشار أول سنة 1977م، ومكث مدة بها ثم عاد إلى أرض الوطن سنة 1981م، حيث استقر به المقام بين أهله وذويه، حيث تفرغ لصنائع المعروف، وإصلاح ذات البين، والسعي في المصالح العامة والخاصة، لم يثنه ذلك كله عن مواصلة البحث والمطالعة والتوجيه والإرشاد.
كان كثير التلاوة للقرآن العظيم والاشتغال بالذكر، كثير الديانة، مقبلا على الأخرى مع المعرفة بالله تعالى والورع التام، معتنيا بما يقربه إلى الله زلفى، راضياً بما قسم له.
جلس للإفتاء والإفادة، برع في التركة فكان يستقبل الأسئلة، وما يعرض عليه من النوازل المهمة، فيجيب بما يثلج الصدور.
وكان دوره التربوي والتعليمي معروفا، كما عرف بالعفة والصلابة في الحق، وعدم التساهل في أي أمر من أمور الدين، وعرف عنه الزهد والأمانة والنزاهة والكرم والرقة والاستقامة.
توفي رحمه الله يوم 2006/04/23م بأبي تلميت، ودفن في مدفن البعلاتية، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى من جناته، وحشره مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا:
نبأٌ عظيم عنه قد اعترضتمُ *** أوليس يا قومُ المخاطب أنتمُ
كلَاّ لقد أسمعت لو كانت تعي *** ودنا الرحيل فأين أين الأحزمُ
هذي الجبال على المناكب سيِّرت *** هذا ثبيٌر راحل ويلملم
هذا الذي فجعَ البرية فقده *** من قد عرفتم فضله وعلمتم
والأرض رجت والقلوب تصدعت *** والأفقُ يظلمُ والجوانح تضرم
أبشرْ برضوان الإله بمضجع *** حيّاك فيه السائلون وسلّموا
وأروكَ قصرك في الجنان مشيَّدا *** والروح والريحان حولك نظّموا.